فصل: باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد (نسخة منقحة)



.باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما:

قوله: (تبرك)، تفعل من البركة، والبركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
1- الكثرة.
2- الثبوت.
والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
1- أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم، مثل القرآن، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مباركًا} [ص: 29]، فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أممًا كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
2- أن يكون بأمر حسي معلوم، مثل: التعليم، والدعاء، ونحو، فهذا الرجل يتبرك بعمله ودعوته إلى الخير، فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيرًا كثيرًا.
وقال أسيد بن حضير: (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر)، فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة، مثل ما يزعمه الدجالون: أن فلانًا الميت الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك، فهذه بركة باطلة، لا أثر لها، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنا لا تعدو أن تكون آثارًا حسية، بحيث أن الشيطان يخدم هذا الشيخ، فيكون في ذلك فتنة.
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيح، فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة، فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره.
ومن ذلك ما جعل الله على يد شيخ الإسلام ابن تيمية من البركة التي انتفع بها الناس في حياته وبعد موته.
أما إن كان مخالفًا للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل، فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله، وذلك مثل ما يحصل لبعضهم أن يقف مع الناس في عرفة ثم يأتي إلى بلده ويضحي مع أهل بلده.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الشياطين تحملهم لكي يغتر بهم الناس، وهؤلاء وقع منهم مخالفات، منها: عدم إتمام الحج، ومنها أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه.
قوله: (شجر) اسم جنس، فيشمل أي شجرة تكون، ومن حسنات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما رأى الناس ينتابون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان أمر بقطعها.
قوله: (وحجر)، اسم جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس، فلا يتبرك بها، وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد الله بمسحه وتقبيله، اتباعًا للرسول، وبذلك تحصل بركة الثواب.
ولهذا قال عمر رضي الله عنه: (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك، ما قبلتك).
فتقبيله عبادة محضة خلافًا للعامة، يظنون أن به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركًا بذلك.
قوله: (ونحوهما)، أي: من البيوت، والقباب، والحجر، حتى حجرة قبر النبي، فلا يتمسح بها تبركًا، لكن لو مسح الحديد لينظر هل هو أملس أو لا، فلا بأس، إلا إن خشي أن يقتدى به، فلا يمسحه.
وقول الله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى} الآيات [النجم: 19].
قوله: {أفرأيتم اللات والعزى}، لما ذكر الله- عز وجل- المعراج بقوله: {والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى} [النجم: 1-2]، قال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم 18]، أي رأى النبي من آيات الله الكبرى. وقد اختلف العلماء في قوله: {الكبرى}: هل هي مفعول لـ: {رأى}، أو صفة لـ: {آيات}؟
وقوله: {الكبرى} قيل: أنها مفعول: لـ{رأى}، والتقدير: لقد رأى من آيات الله الكبرى.
فعلى الأول: يكون المعنى: أنه رأى الكبرى من الآيات.
وعلى الثاني: يكون المعنى أنه رأى بعض الآيات الكبرى، وهذا هو الصحيح، أن الكبرى صفة لـ: {آيات}، وليست مفعولًا لـ: {رأى}، إذا إن ما رآه ليس أكبر آيات الله.
وبعد أن ذكر الله ما رأى النبي من هذه الآيات، قال: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى}، أي: أخبروني ما شأنها، وما حالها بالنسبة إلى هذه الآيات العظيمة، إنها ليست بشيء.
والاستفهام: للاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.
قوله: {اللات}، تقرأ بتشديد التاء وتخفيفها، والتشديد قراءة ابن عباس، فعلى قراءة التشديد تكون اسم فاعل من اللت، وكان هذا الصنم أصله رجل يلت السويق للحجاج، أي: يجعل فيه السمن، ويطعمه الحجاج، فلما مات عكفوا على قبره وجعلوه صنمًا.
وأما على قراءة التخفيف، فإن اللات مشتقة من الله، أو من الإله، فهم اشتقوا من أسماء الله اسمًا لهذا الصنم، وسموه اللات، وهي لأهل الطائف ومن حولهم من العرب.
وقوله: {العزى}، مؤنث أعز، وهو صنم يعبده قريش وبنو كنانة مشتق من اسم الله العزيز كان بنخلة بين مكة والطائف.
قوله: {ومناة}، قيل: مشتقة من المنان، وقيل: من منى، لكثرة ما يمنى عنده من الدماء بمعنى يراق، ومنه سميت منى، لكثرة ما يراق فيها من الدماء.
وكان هذا الصنم بين مكة والمدينة لهذيل وخزاعة، وكان الأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج.
قوله: {الثالثة الأخرى}، إشارة إلى أن التي تعظمونها، وتذبحون عندها، وتكثر إراقة الدماء حولها: أنها أخرى بمعنى متأخرة، أي: ذميمة حقيرة، مأخوذة من قولهم: فلا أخر، أي: ذميم، حقير، متأخر.
فهذه الأصنام الثلاثة المعبودة عند العرب ما حلها بالنسبة لما رأى النبي؟ لا شيء، وإنما ذكر هذه الأصنام الثلاثة لأنها اشهر الأصنام وأعظمها عند العرب.
قوله: (الآيات)، أي: أكمل الآيات بعدها.
قوله: {ألكم الذكر وله الأنثى}، هذا أيضًا استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله البنات ولهم البنين، فإذا ولد لهم الذكر فرحوا واستبشروا به، وإذا ولدت الأنثى ظل وجه الإنسان منهم مسودًا، وهو كظيم، ومع ذلك يقولون: الملائكة بنات الله، فيجعلون البنات لله- والعياذ بالله- ولهم ما يشتهون.
قوله: {تلك إذا قسمة ضيزى}، ضيزى: جائرة، لأنه على الأقل إذا أردتم القسمة، فاجعلوا لكم من البنات نصيبًا، واجعلوا لله من البنين نصيبًا، أما أن تجعلوا ما تختارونه لأنفسكم، وهم البنون، وتجعلون ما تكرهون لله، فهذه قسمة جائرة.
قوله: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنت وآباؤكم ما أنزل إله بها من سلطان}، الضمير في: {هي} يعود إلى الأصنام، أي: هذه الأصنام (اللات والعزى ومناة) التي سميتموها آلهة واتخذتموها آلهة تعبدونها هي مجرد أسماء سميتموها، ولكن ما أنزل الله بها من سلطان، أي: من حجة ودليل.
بل أبطلها الله- سبحانه-، قال تعالى: {ذلك بان الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [الحج: 62].…
وأصل السلطان في اللغة العربية: ما به سلطة، فإن كان في مقام العلم، فهو العلم، وإن كان في مقام القدوة، فهو القدوة، وإن كان في مقام الأمر والنهي، فهو من له الأمر والنهي، فمثلًا قوله تعالى: {لا تنفذون إلا بسلطان} [الرحمن: 33]، أي: بقدرة وقوة، ومثل قوله تعالى: {ما أنزل الله بها من سلطان} [النجم: 23]، أي: من حجة وبرهان.
وفي الحديث: «السلطان ولي من لا ولي له»، أي: من له الأمر والنهي.
قوله: {إن يتبعون إلا الظن}، {إن} هنا بمعنى ما، وعلامة إن التي بمعنى ما أن تأتي بعها إلا، قال تعالى: {إن هذا إلا ملك كريم} [يوسف: 31]، يعني ما هذا إلا ملك كريم، وقال تعالى: {إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 25]، أي: ما هذا إلا قول البشر، وقال تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} [النجم: 23]، أي: ما يتبعون إلا الظن.
والظن الذين يتبعونه هو أنها آلهة، وأن لله البنات ولهم البنون، والظن لا يغني من الحق شيئًا، كما قال تعالى في آية أخرى.
قوله: {وما تهوى الأنفس}، كذلك أيضًا يتبعون ما تهوى الأنفس، وهذا أضر شيء على الإنسان أن يتبع ما يهوى، فالإنسان الذي يعبد الله بالهوى، فإنه لا يعبد الله حقًا، إنما يعبد عقله وهواه، قال تعال: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم} [الجاثية: 23]، لكن الذي يعبد الله بالهدى لا بالهوى هو الذي على الحق.
قوله: {ولقد جاءهم من ربهم الهدى}، أي: على يد النبي، فكان الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.
* مناسبة الآية للترجمة:
أنهم يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعهم وتضرهم، ولهذا يأتون إليها، يدعونها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها، وقد يبتلي الله المرء فيحصل له ما يريد من اندفاع ضر أو جلب نفع بهذا الشرك، ابتلاءً من الله وامتحانًا، وهذا قد تقدم لنا له نظائر أن الله يبتلي المرء بتيسير أسباب المعصية له حتى يعلم سبحانه من يخافه بالغيب.
وعن أبي واقد الليثي، قال: «خرجنا مع رسول الله إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله: الله أكبر! إنها السنن! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون} [الأعراف: 138]. لتركبن سنن من كان قبلكم». رواه الترمذي وصححه.
قوله: «خرجنا مع النبي»، أي: بعد غزوة الفتح، لأن النبي لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن بجمع عظيم كثير جدًّا.
فقصدهم ومعه اثنا عشر ألفًا: ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف جاء بهم من المدينة، فلما توجهوا بهذه الكثرة العظيمة، قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. فأعجبوا بكثرتهم، ولكن بين الله أن النصر من عنده سبحانه وليس بالكثرة، قال تعالى: {لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} الآيتين [التوبة: 25]، ثم لما انحدروا من وادي حنين وجدوا أن المشركين قد كمنوا في الوادي، فحصل ما حصل، وتفرق المسلمون عن رسول الله، ولم يبق معه إلا نحو مئة رجل، وفي آخر الأمر كان النصر للنبي، والحمد لله.
قوله: (حدثاء)، جمع حديث، أي: أننا قريبو عهد بكفر، وإنما ذكر ذلك رضي الله عنه للاعتذار لطلبهم وسؤالهم، ولو وقر الإيمان في قلوبهم لم يسألوا هذا السؤال.
قوله: (يعكفون عندها)، أي: يقيمون عليها، والعكوف: ملازمة الشيء، ومنه قوله تعالى: {وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة: 187].
قوله: (ينوطون)، أي: يعلقون بها أسلحتهم تبركًا.
قوله: (يقال: لها ذات أنواط)، أي: أنها تلقب بهذا اللقب لأنه تناط فيها الأسلحة، وتعلق عليها رجاء بركتها، فالصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، أي: سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركًا بها، فقال النبي: «الله أكبر» كبر تعظيمًا لهذا الطلب، أي: استعظامًا له، وتعجبًا لا فرحًا به، كيف يقولون هذا القول وهم آمنوا بأنه لا إله إلا الله؟!
لكن: (إنها السنن)، أي: الطرق التي يسلكها العباد.
قوله: «قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}»، أي: إن الرسول قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائيل لموسى حين قالوا: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده» المراد أن نفسه بيد الله، لا من جهة إماتتها وإحيائها فحسب، بل من جهة تدبيرها وتصريفها أيضًا، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها- سبحانه وتعالى-.
قوله: «لتركبن سنن من كان قبلكم»، أي: لتفعلن مثل فعلهم، ولتقولن مثل قولهم، وهذه الجملة لا يراد بها الإقرار، وإنما يراد بها التحذير، لأنه من المعلوم أن سنن من كان قبلنا مما جرى تشبيهه سنن ضالة، حيث طلبوا آلهة مع الله، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحذر أمته أن تركب سنن من كان قبلها من الضلال والغي.
والشاهد من هذا الحديث قولهم: (اجعل لنا ذات أنواط كمالهم ذات أنواط)، فأنكر عليهم النبي.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك، لظنهم أنه يحبه.
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير آية النجم، أي: قوله تعالى: {أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذًا قسم ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان} الآية، وسبق تفسيرها، وأن الله تعالى أنكر على هؤلاء الذين يعبدون اللات والعزى، وأتى بصيغة الاستفهام الدالة على التحقير والتصغير لهذه الأصنام.
* الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا، وهو أنهم طلبوا من النبي أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط، وهم إنما أرادوا أن يتبركوا بهذه الشجرة لا أن يعبدوها، فدل ذلك على أن التبرك بالأشجار ممنوع، وأن هذا من سنن الضالين السابقين من الأمم.
* الثالثة: كونهم لم يفعلوا، أي: لم يعلقوا أنواطًا على الشجرة، ويطلبوا من الرسول أن يقرهم على هذا العمل، بل طلبوا من الرسول أن يجعل لهم ذلك.
* الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه، (بذلك)، أي: بتعليق الأسلحة ونحوها على الشجرة التي يعينها الرسول، ولهذا طلبوا ذلك من الرسول لتكتسب بهذا المعنى العبادة.
* الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا، فغيرهم أولى بالجهل، لأن الصحابة لا شك أعلم الناس بدين الله، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا نوع من اتخاذها إلهًا، فغيرهم من باب أولى، وقصد المؤلف رحمه الله بهذا أن لا نغتر بعمل الناس، لأن عمل الناس قد يكون عن جهل، فالعبرة بما دل عليه الشرع لا بعمل الناس.
* السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وهذا معلوم من الآيات، مثل قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10]، فالصحابة رضي الله عنهم لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة وأسباب المغفرة ما ليس لغيرهم، ومع ذلك لم يعذرهم النبي بهذا الطلب. بل رد عليهم بقول: «الله أكبر إنها السنن لتتبعن سنن من كان قبلكم».
* السابعة: أن النبي لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: «الله أكبر ‍إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم»، فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وهي قوله: «الله أكبر»، وقوله: «إنها السنن»، وقوله: «لتركبن سنن من كان قبلكم»، فغلظ الأمر بهذا لأن التكبير استعظامًا للأمر الذي طلبوه، و: «أنها السنن»: تحذير، و: «لتركبن سنن من كان قبلكم» كذلك أيضًا تحذير.
الثامنة: الأمر الكبير- وهو المقصود- أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: اجعل لنا إلهًا. التاسعة: أن نفي هذا من معنى (لا إله إلا الله) مع دقته وخفائه على أولئك. العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
* الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: {اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة}. فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها، وأولئك طلبوا إلهًا كما لهم آلهة، فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد، لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك، واتخاذه إلهًا شرك واضح.
* التاسعة: أن نفي هذا من معنى: لا إله إلا الله مع دقته وخفائه على أولئك، أي: أن نفي التبرك بالأشجار ونحوها من معنى لا إله إلا الله، فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله، وتنفي الألوهية عما سوى الله- عز وجل-، فكذلك البركة لا تكون من غير الله- سبحانه وتعالى-.
* العاشرة: أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة، أي: أن النبي حلف على الفتيا في قوله: (قلتم، والذي نفسي بيده)، والنبي لا يحلف إلا لمصلحة، أو دفع مضرة ومفسدة، فليس ممن يحلف على أي سبب يكون، كما هي عادة بعض الناس.
الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر، لأنهم لم يرتدوا بهذا.
* الحادية عشرة: أن الشرك فيه أصغر وأكبر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها، بل للتبرك بها، والشرك فيه أصغر وأكبر، وفيه خفي وجلي.
فالشرك الأكبر: ما يخرج الإنسان من الله.
والشرك الأصغر: ما دون ذلك.
لكن كلمة (ما دون ذلك) ليس ميزانًا واضحًا. ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين:
القول الأول: أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر، مثل: «من حلف بغير الله، فقد أشرك»، فالشرك هنا اصغر، لأنه دلت النصوص على أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة.
القول الثاني: أن الشرك الأصغر: ما كان وسيلة للأكبر، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك، مثل: أن يعتمد الإنسان شيء كاعتماده على الله، لكنه لم يتخذه إلهًا، فهذا شرك أصغر، لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر، وهذا التعريف أوسع من الأول، لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه شرك إلا إذا كان لديك دليل، والثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك، وربما نقول على هذا التعريف: إن المعاصي كلها شرك أصغر، لأن الحامل عليها الهوى، وقد قال تعالى: {أفرأيت من اتخذ من إلهه هواه وأضله الله على علم} [الجاثية: 23]، ولهذا أطلق النبي الشرك على تارك الصلاة، مع أنه لم يشرك، فقال: «بين الرجل وبين الشرك والكفر: ترك الصلاة».
فالحاصل أن المؤلف رحمه الله يقولك إن الشرك فيه أكبر وأصغر، لأنهم لم يرتدوا بهذا، وسبق وجه ذلك.
الجلي والخفي، فبعضهم قال: إن الجلي والخفي هو الأكبر والأصغر، وبعضهم قال: الجلي ما ظهر للناس من أصغر أو أكبر، كالحلف بغير الله، والسجود للصنم.
والخفي: ما لا يعلمه الناس من أصغر أو أكبر، كالرياء، واعتقاد أن مع الله إلهًا آخر.
وقد يقال: إن الجلي ما انجلى أمره وظهر كونه شركًا، ولو كان أصغر، والخفي: ما سوى ذلك.
وأيهما الذي لا يغفر؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الشرك لا يغفره الله لو كان أصغر، لعموم قوله: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 116]، و: {أن يشرك به} مؤول بمصدر تقديره: شركًا به، وهو نكر في سياق النفي، فيفيد العموم.
وقال بعض العلماء: إن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة، وإن المراد بقوله: {أن يشرك به} الشرك الأكبر، وأما الشرك الأصغر، فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة، وكل ذنب لا يخرج من الملة، فإنه تحت المشيئة، وعلى كل، فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبر من كبائر الذنوب، قال ابن مسعود رضي الله عنه: (لأن أحلف بالله كاذبًا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقًا).
الثانية عشرة: قولهم: ونحن حدثاء عهد بكفر، فيه أن غيرهم يجهل ذلك. الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب، خلافًا لمن كرهه.
* الثانية عشرة: قولهم: (ونحن حدثاء عهد بكفر...)، معناه: أنه يعتذر عما طلبوا، حيث طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط، فهم يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر، وأما غيرهم ممن سبق إسلامه، فلا يجهل ذلك.
وعلى هذا، فنقول: إنه ينبغي للإنسان أن يقدم العذر عن قوله أو فعله حتى لا يعرض نفسه إلى القول أو الظن بما ليس فيه، ويدل لذلك حديث صفية حين شيعها الرسول وهو معتكف، فمر رجلان من الأنصار، فقال: «إنها صفية بنت حيي».
* الثالثة عشرة: التكبير عند التعجب.. إلخ، تؤخذ من قوله: «الله أكبر»، أي: الله أكبر وأعظم من أن يشرك به، وفي رواية الترمذي أنه قال: «سبحان الله»، أي: تنزيهًا لله عما لا يليق به.
الرابعة عشرة: سد الذرائع. الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية. السادسة عشرة: الغضب عند التعليم. السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: «إنها السنن».
* الرابعة عشرة: سد الذرائع، الذرائع: الطرق الموصلة إلى الشيء، وذرائع الشيء: وسائله وطرقه.
والذرائع نوعان:
أ- ذرائع إلى أمور مطلوبة، فهذه لا تسد، بل تفتح وتطلب.
ب- ذرائع إلى أمور مذمومة، فهذه تسد، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى.
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها، يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة، فلهذا سد النبي الذرائع.
* الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية، تؤخذ من قوله: «قلتم كما قالت بنو إسرائيل»، فأنكر عليهم، وبهذا نعرف أن الجاهلية لا تختص بمن كان قبل زمن النبي، بل كان من جهل الحق وعمل عمل الجاهلين، فهو من أهل الجاهلية.
* السادسة عشرة: الغضب عند التعليم، والحديث ليس بصريح في ذلك، وربما يؤخذ من قرائن قوله: «الله أكبر إنها السنن....»، لأن قوة هذا الكلام تفيد الغضب.
* السابعة عشرة: القاعدة الكلية لقوله: «إنها السنن»، أي: الطرق، وأن هذه الأمة ستتبع طرق من كان قبلها، وهذا لا يعني الحل والإباحة، ولكنه للتحذير، كما قال الرسول: «ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة»، وقال: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير...» الحديث، وقال: «إن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله»، وما أشبه ذلك من الأمور التي أخبر النبي عن وقوعها مع تحريمها.
الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكون وقع كما أخبر.
* الثامنة عشرة: أن هذا علم من أعلام النبوة لكون وقع كما أخبر، يعني اتباع سنن من كان قبلنا.
فإن قال قائل: إن النبي قد خطب الناس بعرفة، وقال: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب»، فكيف تقع عبادته.
فالجواب: أن إخبار النبي بيأسه لا يدل على عدم الوقوع، بل يجوز أن يقع، على خلاف ما توقعه الشيطان، لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات، وقوي الإسلام، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك، وهذا نقوله ولا بد، لئلا يقال: إن جميع الأفعال التي تقع في الجزيرة العربية لا يمكن أن تكون شركًا، ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جدد التوحيد في الجزيرة العربية، وأن الناس كانوا في ذلك الوقت فيهم المشرك وغير المشرك.
فالحديث أخبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت، ولكنه لا يدل على عدم الوقوع، وهذا الرسول يقول: «لتركبن سنن من كان قبلكم»، وهو يخاطب الصحابة وهم في جزيرة العرب.
التاسعة عشرة: أن كل ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا.
* التاسعة عشرة: أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا، هذا ليس على إطلاقه وظاهرة بل يحمل قوله: (لنا)، أي: لبعضنا، ويكون المراد به المجموع لا الجميع، كما قال العلماء في قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} [الأنعام: 130]، والرسل كانوا من الإنس فقط.
فإذا وقع تشبه باليهود والنصارى، فإن الذم الذي يكون لهم يكون لنا، وما من أحد من الناس غالبًا إلا وفيه شبه باليهود أو النصارى، فالذي يعصي الله على بصيرة فيه شبه من اليهود، والذي يعبد الله على ضلالة فيه شبه من النصارى، والذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فيه شبه من اليهود، وهلم جرأ.
وإن كان يقصد رحمه الله أنه لا بد أن يكون في الأمة خصلة، فهذا على إطلاقه وظاهره، لأنه قل من يسلم.
وإن أراد أن كل ما ذم به اليهود والنصارى، فهو لهذه الأمة على سبيل العموم، فلا.
العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر: أما: (من ربك؟)، فواضح، وأما: (من نبيك؟)، فمن إخباره بأنباء الغيب، وأما: (ما دينك؟)، فمن قولهم: {اجعل لنا إلهًا} إلى آخره.
* العشرون: أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر... الخ، وهذا واضح، فالعبادات مبناها على الأمر، فما لم يثبت فيه أمر الشارع، فهو بدعة، قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا، فهو رد»، وقال: «إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة».
فمن تعبد بعبادة طولب بالدليل، لأن الأصل في العبادات الحظر والمنع، إلا إذا قام الدليل على مشروعيتها.
وأما الأكل والمعاملات والآداب واللباس وغيرها، فالأصل فيها الإباحة، إلا ما قام الدليل على تحريمه.
وقوله: (مسائل القبر التي يسأل فيها الإنسان في قبره: من ربك؟ من نبيك؟ ما دينك؟).
ففي هذه القصة دليل على مسائل القبر الثلاث، وليس مراده أن فيها دليلًا على أن الإنسان يسأل في قبره، بل فيها دليل على إثبات الربوبية والنبوة والعبادة.
أما: (من ربك)، فواضح، يعني أنه لا رب إلا الله تعالى.
وأما: (من نبيك) فمن إخباره بالغيب، قال: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة»، فوقع كما أخبر.
أما: (ما دينك)، فمن قولهم: {اجعل لنا إلهًا}، أي: مألوهًا معبودًا، والعبادة هي الدين.
والمؤلف محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فهمه دقيق جدًّا لمعاني النصوص، فأحيانًا يصعب على الإنسان بيان وجه استنباط المسألة من الدليل.
الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين. الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة، لقوله: «ونحن حدثاء عهد بكفر».
* الحادية والعشرون: أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين، تؤخذ من قوله: «كما قالت بنو إسرائيل لموسى».
* الثانية والعشرون: أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العبادة، وهذا صحيح، فالإنسان المنتقل من شيء، سواء كان باطلًا أو لا، لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية منه، وهذه البقية لا تزول إلا بعد مدة، لقول: «ونحن حدثاء عهد بكفر»، فكأنه يقول: ما سألناه إلا لأن عندنا بقية من بقايا الجاهلية، ولهذا كان من الحكمة تغريب الزاني بعد جلده عن مكان الجريمة، لئلا يعود إليها.
فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن مواطن الكفر والشرك والفسوق، حتى لا يقع في قلبه شيء منها.